" صعود أعقبه أفول.. مبادئ القومية العربية بعد عبد الناصر"
شكلت العروبية كفكرة قومية واحدة من أشهر التيارات الفكرية في التاريخ العربي الحديث، حيث دعت إلى توحيد العرب ثقافيًا وسياسيًا تحت مظلة مشتركة.
ارتبط الفكر العروبي منذ نشأته بمنطقة الشام، وقتما كان معظم سكان تلك المنطقة يُعرّفون أنفسهم وفقًا
لانتماءاتهم الدينية والقبلية، فبدأت تتبلور فكرة تحديد الهوية باللغة العربية المشتركة. تلقف عدد من المثقفين العرب ذلك التحرك العروبي، منهم ساطع الحصري وزميله ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث، مع صلاح الدين البيطار، معتقدين أن الدول العربية وحدات مصطنعة يجب أن تندمج في بوتقة كيان سياسي موحد، وعند عفلق كانت الوحدة العربية شرطًا أساسيًا لنهضة الفكر العربي.
عبد الناصر والعروبية: من الشعارات إلى المشروع الوحدوي
تلك الأفكار لم تتعدَ كونها أحلامًا حتى تلقفها نظام يوليو في مصر، وبنى جمال عبد الناصر زعامته على تلك الشعارات، وساهم في ذلك مساعيه في إقامة دولة عربية واحدة بدأت بالوحدة مع سوريا، وتشجيعه حركات التحرر في شمال أفريقيا، ودعم الانقلابات في ليبيا واليمن.
بعد رحيل عبد الناصر عام 1970، شهد الفكر العروبي ضربة وجودية انعكست على واقع السياسة والاجتماع في المجتمع العربي.
التحديات التي واجهت الفكر القومي العربي بعد عبد الناصر
مع نهاية حقبة عبد الناصر، بدأ الفكر القومي العربي يواجه عدة تحديات:
- تراجع السلطة السياسية للقومية العربية: شهدت القومية العربية تضاؤلًا في سلطتها بحلول السبعينيات، تزامنًا مع تخلي خليفة عبد الناصر أنور السادات عن الأفكار العروبية، خاصة مع المقاطعة العربية لمصر بعد اتفاقية كامب ديفيد، وتبنيه لسياسات ركزت على الهوية الوطنية.
فأشار المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه "مسألة فلسطين" إلى أن فشل القومية العربية أعاد الشباب إلى الهوية الإسلامية، وشكك في فكرة الهوية العربية، معتبرًا أنها نتجت عن خطاب استعماري في بعض الأحيان.
محاولات التجديد والتفاعل مع الحداثة
تعرض الفكر القومي العربي لانتقادات صادقة من التيارات الليبرالية والإسلامية، التي رأت فيه أيديولوجية مرتكزة على مركزية الحاكم، فكان وضع الإنسان الفرد ضمن المشروع القومي العربي غامضًا. كانت جميع مصطلحات الحرية والكرامة مرتبطة بالكيان العربي المنشود أكثر من ارتباطها بالفرد العربي.
في مواجهة تلك التحديات، ظهرت محاولات لتجديد الفكر العروبي، عبر إعادة صياغة مفاهيم الوحدة والهوية بما يتناسب مع متطلبات المرحلة:
برزت عدة اتجاهات في الفكر القومي العربي الحديث:
- الاتجاه اليساري الاشتراكي: يؤمن هذا التيار بالاشتراكية العربية والوحدة القومية، لكن مع تحديث لبعض أفكارها. تواليت تظهر بشكل جليّ في كتابات الباحث اللبناني جلبير الأشقر، من خلال تحليله إخفاقات القومية العربية الكلاسيكية، ويدعو إلى قومية عربية جديدة تقاوم الهيمنةالغربية والرأسمالية، ففي كتابه "الشعب يريد" يرى أن "فشل القومية العربية التقليدية يعود لتحالفها مع أنظمة استبدادية"
- الاتجاه التقدمي الديمقراطي: يرى هذا التيار أن غياب الديمقراطية أضر بشعبية القومية العربية، لهذا يدعو إلى دمج حقوق الإنسان مع العروبة، ويمثله مفكرون مثل عزمي بشارة، الذي يربط القضية الفلسطينية كمعلم مهم للهوية العربية، ويعتبر التطبيع أداة لتفكك المشروع القومي، وينتقد العروبة السلطوية التي تهمش الفرد العربي مقابل الخطاب الجماعي.
- الاتجاه العروبي الحداثي: يرى أن العروبة ينبغي أن تتجاوز فكرة الدولة القومية بعد فشلها في العالم العربي وتحولها لأدوات قمعية، يدعو إلى عقد اجتماعي عربي جديد يقوم على المواطنة المتساوية.يحذر من تحول العروبة إلى تراث ثقافي منفصل عن السياسة ويمثله المفكر السوري برهان غليون
- العروبة النسوية:
ينبع من تلاقي الهوية العروبية مع النضال النسوي لحقوق المرأة والمساواة في المجتمعات العربية. فترى فاطمة المرنيسي النسوية المغربية، أن مشكلة العروبة تكمن في تعارض مصالح النخبة مع حقوق النساء.
تظل العروبة كإطار ثقافي حاضرة في النقاشات الفكرية، لكنها تواجه سؤالًا وجوديًا: هل ستنجح في التحوّل إلى مشروع شامل يعكس متطلبات الفرد العربي ويواكب تنوّع مجتمعاته؟

