جرير والفرزدق … حرب هجاء خمدت نيرانها بموت ورثاء

 

في العصر الأموي لم يعد الهجاء مجرد غرض من أغراض الشعر كما كان في الجاهلية، بل أصبح فنّاً قائماً بذاته لِمَا توفر له من ظروف ساعدت على نموه وأوصلته إلينا على هيئة نقائض ومعارك شعرية متبادلة بين الشعراء.

 

الهجاء ثمرة تنافس قَبَليّ

ليس مستغرباً أن يحتفي العرب بالهجاء ويهتموا به، فقد كانت القبائل العربية ومِن بعدها الأفراد يتنافسون فيما بينهم في كل شيء، ومثّل الهجاء شكلاً من أشكال هذا التنافس وكان وسيلة للتعبير عن عاطفة الغضب، وليس هذا فقط، فمن أتقن الهجاء في ذلك الوقت كان يملك نقطة قوة بوسعها تحريك الرأي العام وكأنما وسائل الإعلام الحديثة في يده، يُعلي من شأنه وشأن قبيلته ملصقاً بخصومه العيوب والمثالب والمذمّات على اختلاف أشكالها، وكان من أكثر ما يسوء العربي أن يهجوه أحدهم ويتهمه بالبخل أو الجبن.

 

ردّ الفعل أقوى من الفعل:

 

درجت العادة أن يأتي الردّ على الهجاء أقوى منه إذ أن متلقّيه يستثار ويتألم ويدبّج ردّه للدفاع عن نفسه ولا بد أن يكون ردّاً أقوى ليقنع السامعين ويقيم الحجة على من هجاه.

 

الهجاء بين الفرزدق وجرير….نقائض شغلت الناس

 

ولدت النقائض على يد جرير والفرزدق في العصر الأموي واستمرا في سجالهما حوالي خمسين سنة فانشغل به الناس وغدت المفاضلة بينهما حديث المجالس دون أن يصل المفاضلون إلى اتفاق، فلم يُذكَر جرير والفرزدق في مجلس واتفق أهله على واحد منهما، بل إنّ بعضهم خصص جوائز لمن يعجَب بالفرزدق كمحمد بن عمر بن عطارد الذي بذل أربعة آلاف درهم وفرساً لمن يفضّله على جرير.

 

من مُقيَد لحفظ القرآن إلى المهاجي اللدود:

 

أما كيف بدأت المهاجاة بينهما وما سببها فيقال إن جرير هجا البعيث المجاشعي ونال من نساء مجاشع، حينها كان الفرزدق في البصرة قد عزم على حفظ القرآن وقيّد نفسه لتلك الغاية مقسماً ألا يطلق قيده حتى ينجز حفظه، ولمّا بلغ نساء مجاشع فحش جرير بهن أتين الفرزدق المقيَد وقلن له: "قبح الله قيدك فقد هجا جرير نساءك." ففكّ قيده وقال يهجو لتبدأ واحدة من أعظم حوادث الأدب وتطول حتى موت الفرزدق.

 

الفرزدق:

 

هو همام بن غالب من قبيلة تميم، رفيع النسب، أبوه سيد بادية تميم. قصير ضخم ذو وجه جهم مدور أصلع، سمّاه جرير بالقريد الأصلع. كثير المحفوظ من شعر العرب وأخبارهم، صحيح اللغة جزل الأسلوب، ومن ثقته بنفسه وجفاء طبعه كان إذا عارضه نحوي ردّ عليه: "علي أن أقول وعليكم أن تحتجوا" ولربما هجا من يدقق عليه، وانطلاقاً من هذا الثقة أتقن في شعره الفخر والتعاظم والتيه والهجاء وأقلّ في الغزل.

 

جرير:

 

وهو جرير بن عطية الملقب بالخَطَفَى، ينتسب إلى تميم كالفرزدق لكنه أقل رفعةً منه فوالده بخيل شحيح لا شأن له في القبيلة. مال في شعره إلى الطبع والرقة وعدم التكلف، صوره الشعرية طبيعية ميسورة كيُسر شعره.

كان سليط اللسان، علاقته بالشعراء تراوحت بين مد وجزر وسلبية وإيجابية فغلبت عليها السلبية، وكذا علاقته بالولاة والخلفاء، لم يحكمها طابع واحد، إذ كانوا يكرمونه حيناً ويرهبونه ويقيدونه حيناً.

 

الهجاء، ما بين مؤيد ومعارض:

 

اختلفت المواقف من حرب الهجاء القائمة بين الشاعرين، فاعترض عليها عقلاء بني تميم واعتبروا أنهما يلحقان بهم الخزي والعار لعدم التزامهما بالضوابط الأخلاقية، أما القبائل المعادية فاستغلت ذلك وكانوا يشعلون النار كلما خمدت بإعادة تداول قصائد الهجاء، وساهم بعض الولاة والحكام في تعزيز المهاجاة طلباً للمداعبة والنكتة والتفكّه.

 

لكنّ تباين المواقف من الهجاء استمرّ عند النقاد في العصر الحديث، بعضهم رآه يخلّص المجتمع من عيوبه بفضحها وتسليط الضوء عليها عبر قصائد ستدفع سامعيها لتجنب المثالب وعدم تكرارها، بينما رأى البعض الآخر أن الدافع وراء الهجاء لم يكن وعظياً ولا تربوياً وإنما انتقاصاً وحَطاً من قدر الخصم وكأنه "التنمّر" في نسخته القديمة.

 

رثاء بعد خمسين سنة من الهجاء:

 

ورغم تنازع الآراء إلا أن الشاعرين تركا خلفهما إرثاً شعرياً ضخماً وعلاقةً فريدة مثيرة للفضول والجدل.

إذ كان الأصمعي يقول عن جرير: "نهشَه ثلاثة وأربعون شاعراً فنبذهم وراء ظهره ورمى بهم واحداً واحداً وثبت له الفرزدق والأخطل" فليس غريباً أن يفتقد جرير صديقه اللدود الذي سبقه إلى الموت فيرثيه، ثم يموت بعده بسنة وكأن الحياة بدون مباريات الهجاء لم يعد لها طعم ومتعة، قائلاً وتأثُره جليٌّ في أبياته:

 

لَعَمري لَقَد أَشجى تَميماً وَهَدَّها

عَلى نَكَباتِ الدَهرِ مَوتُ الفَرَزدَقِ

عَشِيَّةَ راحوا لِلفِراقِ بِنَعشِهِ

إِلى جَدَثٍ في هُوَّةِ الأَرضِ مُعمَقِ

لَقَد غادَروا في اللَحدِ مَن كانَ يَنتَمي

إِلى كُلِّ نَجمٍ في السَماءِ مُحَلِّقِ

 

 

للاستماع إلى قصيدتي الهجاء وحكاية الفرزدق وجرير شاهدوا حلقتنا من بودكاست "وحي القصيد" على قنواتنا في يوتيوب وبقية المنصات الصوتية الأخرى.