أبو البقاء الرندي… راثي الأندلس وباكيها الأشهر
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يُغرَ بطيب العيش إنسان
ليس بين محبّي الشعر والأندلس مَن لم يستعن بأبيات هذه القصيدة ليبكي بها على حضارة وأمجاد تلك الحقبة، والاستعانة بالشعر للتعبير والتأثير حينما تستعصي المفردات تزيد أهميته وعظمته فهو المتحدث بلسان الحزانى العاجزين الفاقدين أو بلسان المفتخرين السعداء المنتصرين، وبما أن الشعر لم يُكتَب من تلقاء نفسِه فإن كل الأبيات المشهورة تقودنا للتفتيش عن شخصية الشاعر الكامنة وراءها للتعرّف على النفس التي أنجبت هذه الأبيات حتى صارت مأثورة وغدت مثلاً.
لقبان اثنان لشاعر واحد:
صالح بن يزيد من أهل رندة الأندلسية ولد عام ٦٠١ه وتوفي عام ٦٨٤ه كنيته أبو الطيب بن شريف، وكنّاه المعري بأبي البقاء. درس على أكبر مشايخ عصره وأتقن العربية والحديث والفقه فاستحق أن يكون من خواتيم الأدباء في الأندلس، صنّف في الفرائض وأعمالها مختصراً نافعاً نظماً ونثراً، وله كتاب في العروض وصنعة الشعر أسماه "الوافي في نظم القوافي" ومن كتبه "روضة الأنس ونزهة النفس". وهو حافظ متفنن في معارف جليلة.
بارع التصرف في منظوم الكلام ومنثوره:
بديعُ صنيعِ أبي البقاء الشعري يتسم بعذوبة الألفاظ ورقّة المعاني بغير تكلّف أو جزالة. كتب في أغلب أغراض الشعر المعروفة واختص الوصف من أغراضها بعنايته، لم يقرب المدح إلا في المناسبات المهمة، وكان إن كتب في الزهد يأتي زهده أقرب للحكمة والموعظة والاعتراف بوحدانية الله، أما حين يتغزل فيداعب العواطف ويوقظها ليبعث كل شوق من مرقده، لكنّنا نعرفه في الرثاء أكثر ما نعرفه بفضل مرثيته التي تُعَد أشهر مراثي الأندلس جميعاً.
أما من الناحية الفنية فقد غلب على شعره التزويق اللفظي والصنعة الكلامية خاصة في الجوانب الصوتية ويكشف ذلك عن براعته في النظم وحسن أدائه الصوتي، وهو شاعر مصّور يحسن التصوير، وفنّان في رسم الطبيعة عبر قلمه.
وصفٌ بديع يداعب الخيال:
من يطلع على شعر أبي البقاء ووصفه لما حوله يجد خيالاً خصباً ونفساً متعمقة رقيقة سابحة تنفذ إلى أغوار الأمور ومكامنها وتستغرق في قراءتها ومن ثم تفسيرها وترجمتها في أبيات تشرح الكون وتقارب بين ظواهره وطبيعته وبين المشاعر الإنسانية، ونلمس ذلك في مقطوعته التي تصف الطيف بسرعة حضوره ورحيله وتشبهه بأحوال الوصل والهجر:
ومن عجب للطيف أن جاء واهتدى
فعاد عليلاً كان كالطيف أو أخفا
ألمَّ فأحياني وولى فراعني
ولم أر أجفى منك طبعاً ولا أشفا
وقد رأى في البحر العجب وفُتِن به، ويفشي ذلك بيته الشعري:
البحر أعظم مما أنت تحسبه
من لم ير البحر يوماً ما رأى العجبا
تبجيله للسيف لم ينفِ رقته وحبه للورد، فشعره وصف كليهما ببراعة، إذ قال في السيف:
وأبيض صيغ من ماء ومن لهب
على اعتماد فلم يخمد ولم يسل
وقال في الورد:
الورد سلطان كل زهر
لو انه دائم الورود
بعد خدود الملاح شيء
ما أشبه الورد بالخدود
فردوس أبو البقاء المفقود:
إلا أن المتمعن في قصائده لا يعثر على شعر متمكن فحسب بل يبصر مدى حبه للأندلس التي جادت عليه بهذه البيئة الغنية بعناصر تحفز الإبداع وتحرّك القلم وهو الذي عاش فيها وتنقل بين مدنها مشغوفاً بها، اتصل ببلاط بني نصر في غرناطة وكان يفد عليهم ويمدحهم وينال جوائزهم، أفاد من مجالس علمائها ومن الاختلاط بأدبائها وأنشدهم من شعره، فليس غريباً بعد المسيرة الحافلة أن يهدّه فقد فردوسه ويزعزع أركانه، فشاعر بتلك الرقة ومخلصٌ وفي لبلاده ذاك الإخلاص لم يكن ليرضى بأقل من قصيدة تهز قلوب المصغين إليها قبل أن تهز الآفاق وتعيش إلى يومنا هذا لنلجأ إليها حين نرثي وحين نحزن.
والقصيدة من شهرتها وتأثيرها ووصولها للقاصي والداني يبدو أنه قد حصلت فيها زيادات، فكأن من أعجبتهم من أهل غرناطة وبسطة وغيرها وأرادوا استنهاض همم الملوك في المشرق والمغرب أضافوا إليها إضافات يسهل إدراكها لأنها لا تقارب بلاغة قصيدته الأصلية وإن كانت توضح مدى أهميتها وصداها.
فاسأل بَلَنسِيةً ما شَأنُ مرسِيَةٍ
وَأَينَ شاطِبة أَم أَينَ جيّانُ
وَأَين قُرطُبة دارُ العُلُومِ فَكَم
مِن عالِمٍ قَد سَما فِيها لَهُ شانُ
قَوَاعد كُنَّ أَركانَ البِلادِ فَما
عَسى البَقاءُ إِذا لَم تَبقَ أَركانُ
أبو البقاء يلتمس الدعاء من المسلمين:
وحينما ودّ أبو البقاء أن يذكره الناس ويترحموا عليه لجأ للشعر أيضاً، وهو الرفيق الذي لم يخذله طيلة حياته، فنظم بيتين أوصى أن يُكتبا على قبره بيته ومثواه الأخير ليدعو له كل من مرّ بهما فعقل ما كُتب وترك في نفسه أثراً:
خليلي بالود الذي بيننا اجعلا
إذا مت قبري عرضة للترحم
عسى مسلم يدنو فيدعو برحمة
فإني محتاج لدعوة مسلم
للاستماع إلى حكاية أبو البقاء مع الأندلس كاملة شاهدوا حلقتنا من بودكاست "وحي القصيد" على قنواتنا في يوتيوب وبقية المنصات الصوتية الأخرى.
المصادر
أبحاث ودراسات في الشعر الأندلسي، محمد عويد الساير، ٢٠١٤، دار الكتب العلمية.
الوافي في نظم القوافي، دراسة وتحقيق هدى شوكت بهنام، زينة عبد الجبار محمد، ٢٠١٩، دار غيداء للنشر
حلقة بودكاست وحي القصيد عن أبي البقاء الرندي