المرقّش الأكبر | المغرم بأسماء وأشهر عشاق العرب
يقال إن الموت حباً لا يحدث إلا في حبكات القصص والروايات العتيقة وأنه ضرب من المبالغة، ولربما يبدو هذا
في قصة شاعرٍ لم يكن بطل حكاية وهمي ولا اختلقته بناتُ أفكارِ كاتبٍ ما، بل إنه و أحداث حياته حقيقيان، وغرامه قد قتله بالفعل.
شاعر ضاع أكثر شعره:
عمرو بن سعد بن مالك والبعض يسميه ربيعة بن سعد، وهو عم المرقش الأصغر، شاعر جاهلي من المتيمين الشجعان وعشاق العرب المعروفين، محسنٌ للكتابة وشعره من الطبقة الأولى إنما ضاع أكثره.
ولد في اليمن ونشأ في العراق واتصل بالحارث أبي شمر الغساني ونادمه ومدحه فاتخذه الحارث كاتباً له.
بيتٌ شعر منحه لقبه:
سُمي عمرو بالمرقّش بسبب قوله:
الدار قفر والرسوم كما
رقّش في ظهر الأديم قلم
والرَّقشُ هو الخط الحسن، ورقَّشَ الشيء أي حسّنه وزيّنه، ورقّشَ الفنان بريشته أي نقش وزيّن ولوّن.
عشق جارف قابلته قسوة العم:
أحب المرقش ابنة عمه أسماء بنت عوف حباً شديداً وأولِع بها وتسبّب طلبه لخطبتها بتغيير حياته، إذ أن والدها وهو عمه شقيق أبيه رفض تزويجه بها إلا بشرط، قائلاً بجفاء: لا أزوجك بها حتى تعرف بالبأس والضر وتغدو رئيساً.
لم يستسلم عمرو فجدّ في تطبيق شرط عمه وسافر لأجل ذلك إلى الحيرة وامتدح ملكه فأزجى له المال والثناء وبذلك حقق المطلوب وبلغ ما أراد وقفل عائداً متهللاً يرقص قلبه تشوقاً للقاء المحبوبة والزواج بها.
في القبر أسماء؟ أم في القبر كبش؟
انهارت أحلام المرقش فوق رأسه عندما عاد فأخبره إخوته بوفاة أسماء ودلّوه على قبرها الذي صار له مزاراً يتردد عليه ليتذكرها ويبكيها بقلب مفطور وشعر بليغ.
أَغالِبُك القلبُ اللجوج صبابة
وشوقاً إلى أسماء أم أنت غالبُه؟
وأسماء هم النفس إن كنت عالماً
وبادي أحاديث الفؤاد وغائبه
إذا ذكرتها النفس ظَلْت كأنني
يزعزعني قفقاف ورد وصالبه
وبينما هو جالس قرب القبر إذ بولدين من أولاد إخوته يتخاصمان على كعبي كبش، فسمع المرقّش أحدهما يقول: هذا كعبي، أعطاني إياه أبي من الكبش الذي دفنوه وقالوا إنه قبر أسماء.
حقيقةٌ أكثر وجعاً من موت المحبوبة:
وهكذا ظهرت الحقيقة، فأسماء لم تمت، ولكن إخوة المرقش ذبحوا كبشاً وألقوا عظامه في القبر كيلا يخبروا أخاهم بحقيقة ستوجعه أكثر وتشعره بمُرّ الغدر بعد وفائه بالوعد، ذلك أن عمه _حينما كان المرقش غائباً_ تعرض لأزمة شديدة ونال منه الفقر والجوع وفيما هو على هذه الحال مر عليه رجل موسر على قدر كبير من الثراء فزوجه أسماء وقدّم له مهراً قدره مئة من الإبل.
أبيات تُنقَش على ظهر حمولة:
مع تجلّي الحقيقة شدّ المرقش رحاله إلى حيث أسماء واصطحب معه خادماً، لكن المرقش مرض في طريقه فعاد الخادم بدونه وادّعى موتَه، إلا أن أخ المرقش ارتاب في ادعائه وبينما هو يرتب الرحل العائد عثر على أبيات خطَها المرقش على ظهر الحمولة حينما سمع خادمه يخطط للتخلي عنه وتزييف موته:
يا راكباً إما عرضت فبلغن
أنس بن سعد إن لقيت وحرملا
من مبلغ الأقوام أن مرقشاً
أمسى على الأصحاب عبئا مثقلا
وكأنما ترد السباع بشلوه
إذ غاب جمع بني ضبيعة منهلا
الموت في أرض المحبوبة:
لم يتوقف المرقش عن مضيه في سبيل البحث عن أسماء وبعد معاناةٍ نالَ مبتغاه بفضل راعٍ مرّ بكهفه مع أغنامه فاستوقفه وساءله عن شأنه وعرف أنه راعي فلان، وفلان ذاك هو زوج أسماء، فأزمع المرقش تحميل أمانته للراعي وأرسل معه خاتمه وطلب منه أن يجعله في إناء الحليب. وحدث كما تأمّلَ، فما إن شربت أسماء الحليب حتى ظهر لها الخاتم فاستضاءت بالنار وعرفته وسارعت مع زوجها إلى الكهف الذي يأوي إليه المرقش وحملا جسده المثقل الذي أضناه المرض، إلا أنه ورغم احتضاره لم يغمض عينيه قبل أن يسلّمَ لأسماء حبَه متمثلاً في قصيدة عُرِف بها وعُرفَت عبرها حكايته الأسطورية:
سرى ليلاً خيال من سليمى
فأرقني وأصحابي هجودُ
فبت أدير أمري كل حال
فأرقب أهلها وهم بعيد
فما بالي أَفي ويخان عهدي
وما بالي أصاد ولا أصيدُ
ثم وبعد أن قال كل ما لديه، استراح من ثقل عشقه وأغمض عينيه ميتاً عند أسماء ومدفوناً في أراضيها.
للاستماع إلى القصيدة والقصة كاملةً شاهدوا حلقتنا من بودكاست "وحي القصد" على قنواتنا في يوتيوب وبقية المنصات الصوتية الأخرى.
المصادر:
شعراء وعشاق قتلهم الحب، آلان باجلان، ٢٠٢٠، مركز الكتاب الأكاديمي
هندسة القصيدة الجاهلية، أيمن القادري، ٢٠١٧، دار الكتب العلمية.
منتهى الطلب من أشعار العرب، أبو غالب البغدادي، المحرر: محمد زهران، ٢٠٠٨، دار الكتب العلمية.