"هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة، وثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر.. وإنما أظلم دارنا."
هكذا يصف الشاعر الدمشقي نزار قباني بيته في كتابه" قصتي مع الشعر"، وليس وصفه من قبيل المجاز أو المبالغة الشعرية، فزيارة واحدة لبيت من بيوت دمشق كفيلة بأن تخرج شاعر غزل لم تكن تتخيل وجوده يوما، قمت بتلك الزيارة نيابة عنك وسأصف لك ما رأيت، لكن قبل ذلك هل تعرف معنى البيت؟
فلسفة البيت ومعناه
لم يكن مفهوم البيت يوماً مجموعة جدران تشكل غرفاً مختلفة يعلوها سقف واحد، بل أراد الإسلام أن يكون للبيت معنى أعمق وأجمل من ذلك بكثير، فالبيت ستر وسكن وأمان ورحمة، والستر لا يكون إلا بأمان الحرمات والاحتماء من تلصص العيون، والأمان يتأتي بالتحصن من الأعداء، والرحمة تنبعث في القلب إذا ما سكن، والسكن من قرار العين، والعين تقر برؤية الجمال.
والجمال ينبعث لك من كل ركن في بيوت الشام، في دمشق القديمة تقف المنازل التي يعود تاريخها إلى القرن ال18 شامخة، تبدو من الخارج صلبة جامدة، لكن وراء جدرانها البسيطة حكايات من الدفء والجمال، أسرار تتفتح لك منذ دخولك من باب البيت إلى باحاته الداخلية المزينة ب"نوافير المياه" وأحواض الورد والنباتات من كل لون وشكل.
مكونات البيت الدمشقي
وفلسفة العمارة في البيت الدمشقي تجسد معنى الخصوصية في أجمل صورة، فنرى أن "خوخة البيت" -وهي جزء من باب البيت تسمح بمرور الأشخاص فقط- لا تفتح مباشرة على الداخل، إنما تؤدي إلى دهليز ضيق ومتعرج ومظلم بعض الشيء يقودك بدوره إلى "أرض الديار"، وهي باحة واسعة مكشوفة السقف مفتوحة إلى السماء تتوسطها بحرة رخامية مزخرفة، وفي كل ركن من أركان هذه الباحة نوع شجر وورد مختلف، من الليمون والنارنج إلى الياسمين والربحان، لتشكل بذلك حديقة داخلية تلبي لسكان البيت حاجة نفسية من التأمل في الطبيعة، وقد يحتوي البيت على ساحة واحدة أو اثنتين أو حتى أربع ساحات، ومن تلك الباحة ننتقل إلى "الإيوان" وهو مجلس مفتوح على صحن الدار، يرتفع عن مستوى الأرض بدرجة.
أما ارتفاع البيت عادة فمن طابقين، حيث يضم الطابق الأول غرف الاستقبال والمعيشة مثل "الديوانية" و"الجوّاني" وكذلك المطبخ وغرفة المؤن، أما الطابق الثاني فيحتوي غرف النوم التي تطلّ نوافذها على ساحة البيت الساحرة .
فنٌ في كل ركن
وكل جدار ومرفق من مرافق البيت يتزيّن بالزخارف والنقوش التي تزيده جمالاً على جماله، وهي متنوعة بأشكال وألوان، فيمكن أن تكون من الخشب أوالحجر أو الرخام أو الزجاج الملون، وتكون على شكل زخارف نباتية أو أنماط هندسية أو آيات قرآنية أو أبيات من الشعر.
وإذا تساءلت عن لبنة البيت وأحجاره فستجد منها ما بني بالطّين واللِّبن، ومنها ما عمر بالحجر والخشب، على أن تخدم جميعها هدفاً مهماً، وهو أن تساعد في عزل الحرارة فتوفر الرطوبة في الصيف والدفء في الشتاء.
العمارة والطبيعة صديقتان
والطبيعة المناخية لدمشق سبب آخر في معمار بيوتها، فالمدينة التي تمثل قلب الشام ترتفع درجات الحرارة فيها صيفاً وتنخفض شتاءً بشكل كبير، وفي زمان لم يعرف الناس فيه المدفأة الكهربائية أو مكيف الهواء كان لزاماً عليهم أن يتكيفوا مع بيئتهم، ويستغلوا كل مورد في سبيل ذلك، ولذا كان بناء البيوت متلاصقة في حارات ضيقة بطريقة تحدّ من انتشار الحرارة للداخل، بالإضافة إلى البحرة التي ترطب الأجواء في صحن الدار وتعمل كمكيف تبريد طبيعي، والنباتات التي تلطف وتخفف، والأسقف المرتفعة والجدران السميكة المطلية باللون الأبيض، بأسلوب معماري متفرد جمع بين الإبداع والتكيّف مع البيئة وظروفها.
نخلص من كل ذلك إلى حقيقة مفادها أن الدمشقي أراد لبيته أن يكون جنته على الأرض، فأبدع في بنائه وضمنه عناصر الطبيعة كلها، فمساحة مائية وغطاء نباتي ونسمة هواء عليل، مع حفاظه على خصوصية البيت وستر من فيه، فتحققت له بذلك غاية الإنسان من كل بيت يسكنه، الأمن والراحة والجمال.