يفعل الأسر بالإنسان ما لا يفعله أي خطب آخر فكيف إن كان

المأسور فارساً ومن أشد عشاق الحرية والاعتداد بالنفس؟

 

فارس مقدام بعيد المرامي:

 

إن عرّفنا عن الشاعر باسمه الحارث بين سعيد بن حمدان فقد يجهله القارئ، أما حين نقول "أبو فراس الحمداني" فمن الذي يجهل هذا الفارس المقدام؟

 

عاش بين عامي ٣٢٠ و٣٥٧ ه‍ وهو ابن عم سيف الدولة الحمداني أمير الدولة الحمدانية التي شملت أجزاء من شمالي سوريا والعراق وكانت عاصمتها حلب. كان قبل أسره فتى مفعماً بالحركة والحياة، عالي الطموح والتطلعات، ذا قوة بدنية ونفسية، يتحلى بأخلاق الفتوة العربية الإسلامية من عزم وشجاعة وإرادة واتخاذ للعدة وإيمان بالله. حين يفتخر بنفسه يجيء فخره حقيقياً صادقاً لا استعراضاً، إذ أنه قائد يقود الجيوش إلى الثغور ورجل مهم في عشيرته وقومه، يحقق ما يقوله خلافاً للمعروف عن الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون، أما هو فيقول ويفعل في حياته عموماً وفي المعارك التي يخوضها على وجه الخصوص.

 

اعتدّ بحريته وكانت غالية عليه، عرفها على أنها قدرته على الركوب والرحيل إلى حيث يشاء ويريد دون خضوع لحكم ولا إطاعة لإرادة غير إرادته الشخصية ودون ثقة سوى في عدّته. وهو حليم شهم، مشجع على الفضيلة والخير.

 

الفارس المأسور:

 

عام ٣٥١ ه‍ كان أبو فراس عائداً مع رجاله من الصيد إلى منبج التي كان والياً عليها، فلما لقي كتيبة للروم لم يجبن ولم يهرب بل واجهها رغم عدم استعداده للقتال، فقاتل حتى أصيب واقتيد أسيراً إلى القسطنطينية.

 

وقد اتهم بسبب فعلته هذه بالتهور لمنازلته جيش الروم الجرار بعدد صغير من الجند، فردّ على التهمة بشعره:

يقولون لم ينظر عواقب أمره

ومثلي من تجري عليه العواقب

أرى ملء عيني الردى فأخوضه

إذ الموت قدامي وخلفي المعايب

وهل لقضاء الله في الخلق غالبٌ

وهل لقضاء الله في الخلق هاربُ؟

 

وتفصح هذه الأبيات عن فكره وفلسفته الحياتية بوضوح فهو يثبت في النوازل ويقدّم ما يقدر عليه ثم يرضى بالمقدَر ويقرّ به ويتضح ذلك ثانيةً في هذين البيتين:

أُسرت وما صحبي بعزل لدى الوغي

ولا فرسي مهر ولا ربه غمر

ولكن إذا حُم القضاء على امرئ

فليس له برّ يقيه ولا بحرُ

 

مكابرٌ يشتكي لحمامة:

 

كتب في سجنه قصائده الرومية، قصائد مفعمة بالأَنفة وعزة النفس، وتأكيده فيها على قوة احتماله وجميل صبره قد لا يدلّ على قوة فحسب، بل على مكابرة رغم عظيم الجزع ولو أن الأسر لم ينل منه لما كرر ونوّع في وصف حاله. مكابرة الفارس الذي جارَت عليه الظروف وتَمنُّعه عن الاشتكاء لأي شخص دفعته ليشتكي أمره لحمامة حطت على فننٍ بالقرب منه في حبسه، رأى في إقبالها إليه وهديلها عنده أنها تفهم ما يكابده وخاطبها دون غيرها:

أقول وقد ناحت بقربي حمامة

أيا جارتا هل بات حالك حالي؟

 

وهذا اللجوء للحمام للتعبير عن المواجد من شوق وحنين وصبابة معروف لدى العرب فللحمام إيحاءاته العميقة بسبب وداعته وبسبب ما بين أفراده وأزواجه من حميمية وألفة.

 

وصفٌ بليغ للضعف الإنساني:

 

وهكذا ولدت قصائد خالدة تحت سقف قلعة الأسر وثّقت ما يحلّ بالإنسان حين ضعفه وشرحت هذه الحال أوفى شرح ليتجلى فيها صراع العنفوان والكبرياء مع ظلمات الأسر وحسرته ودموعه.

وفي ذلك يقول داعياً متضرعاً:

كن يا قوي لذا الضعيف

ويا عزيز لذا الذليل

 

أما أشهر قصائده فتلك التي نعرفها كأغنية لأم كلثوم ونطرَب لسماعها ومعانيها نفّاذة التعبير:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر

أما للهوى نهي عليك ولا أمر

بلى أنا مشتاق وعندي لوعة

ولكن مثلي لا يذاع له سرّ.

 

وهي قصيدة تحمل معانٍ مختلفة ورسائل مبطنة ومعلنة لابن عمه سيف الدولة بخلاف ما يُعتقد أحياناً من أنها قصيدة غزلية!

 

شاعر ينعى نفسه بنفسه:

 

خرج الحمداني من أسره بعد أربعة أعوام في مبادلة للأسرى بين الحمدانيين والروم بعد معاناة حالت بينه وبين تحقيق المجد الذي عاش عمره يتطلع إليه ويبكيه في شعره:

ووالله ما قصرت في طلب العلا

ولكن كأن الدهر عني غافل

خليلي أغراضي بعيد منالها

فهل فيكما عون على ما أحاول

 

وقبيل خروجه إلى المعركة التي سيلقى فيها حتفه كتب ينعى نفسه ويصبّر ابنته راضياً، مذكّراً إياها بأن الموت سنة الحياة:

أبنيّتي لا تجزعي

كل الأنام إلى ذهاب

 

فذهب أبو فراس، ولكن دون أن تذهب أشعاره وقصته الملحمية التي خلدت في سطور التاريخ.

 

استمعوا إلى حكاية أبو فراس الحمداني وقصيدته الملحمية "أراك عصي الدمع" كاملة من خلال حلقتنا في بودكاست "وحي القصيد" على قنواتنا في يوتيوب وبقية المنصات الصوتية الأخرى.

 

 

المصادر

التجربة الإنسانية في روميات أبي فراس الحمداني، عبد المالك المومني، ٢٠١٠، دار الكتب العلمية.

 

حلقة بودكاست وحي القصيد عن أبي فراس الحمداني.