قرنٌ على المحاولة الأولى:

تبدأ القصّة من اللحظة التي فكّر فيها أحد أبرز الأسماء في عالم الطرب في زمانه بتحويل القصيدة العريقة المحفوظة في كتب التراث والشعر العربي إلى أغنية عصرية بديعة. حيث قاد الإلهام المغني المصري "عبده الحامولي" إلى تلحين القصيدة، فكان أوّل من لحّنها وغنّاها في نهاية القرن التاسع عشر على مقام البياتي.

لكنّ أول إصدار شهير للأغنية لم يكن من نصيبه، بل كان بأداء المغنّي المصري "عبد الحي حلمي" الذي أداها بخمس نسخ مختلفة.

فتحت هذه المبادرة الباب أمام أهل الصنعة، فتنبّهوا لجمال القصيدة وعذوبة ألفاظها، وأخذ يترنّم بحروفها ومعانيها عمالقة الغناء في ذلك الوقت، بتأويلاتٍ طربيّة وارتجالاتٍ وزخارف صوتيّة عدّة، بالتكرار تارة، أو بغنة النون، أو بإدخال كلمة "يا سيدي" بين الأبيات تارة أخرى، وكان من أبرزهم: أمين حسنين، وزكي مراد، وسيد الصفتي، ومحمد سليم، وصالح عبد الحي، وغيرهم.

 

القصيدة تتحول إلى أغنية ساحرة:

في عام 1926، سجّلت أم كلثوم القصيدة بألحان الحامولي بعد ضبط اللحن وإتقانه ومزجه مع مقام الصّبا، فتميّز أداؤها عن غيرها من المغنّين. ثم في عام 1944، غنّتها بألحان "زكريا أحمد" على مقام السيكاه.

لكنّ نقطة التحول في مسار الأغنية وشهرتها لدى الجمهور العربي جاءت بعد مرور عشرين عاماً، حين طلبت أمّ كلثوم تلحين أجزاء مختلفة من الأبيات الشعريّة من ملحّنها الأعز "رياض السنباطي"، ثم عاودت غناءها على المسارح ليصبح الأداء الأشهر للقصيدة والأبقى بالقلب.

ومع أنّ أداء كوكب الشرق للأغنية كان سبباً كفيلاً لوحده بأن يفتح للقصيدة المغنّاة آفاق الشهرة، إلا أنّ كلمة السر الأخرى في نجاح الأغنية -كما يرى البعض- هي عبقرية الملحن الفذّ واختياراته الموفّقة،

فقد لحّن السنباطي الأبيات بتداخل مقامات الكرد والرّست والعجم والنهاوند، وأدخل ترانيم آلة البيانو الغربيّة على قصيدة عربيّة تاريخيّة فصيحة بقرارٍ جريء، إيماناً منه بأنّ مثل هذا اللحن يمثّل معاني القصيدة ويُظهر محاسنها.

 

أصل الحكاية:

تقول القصة أن أبا فراس الحمداني الحارث بن حمدان، الذي وُلد عام 933م ونشأ تحت رعاية ابن عمه "سيف الدولة الحمداني" وكان أحد أهم مُجالِسيه، كان شاعراً وفارساً مغواراً، حقّق انتصارات كثيرة على الرّوم في معاركهم ضد الدولة الحمدانية في حلب.

في عام 962م، أُسر أبو فراس أثناء عودته من رحلة صيد، فراسل سيف الدّولة طلباً للنّجدة، لكنّ الأمير امتنع عن إنقاذه طيلة أربع سنوات، فكتب له أبو فراس قصيدة "عصيّ الدّمع" من السّجن تعبيراً عن شدّة حزنه وشوقه، وقال في مطلعها:

أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبرُ .. أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ

بَلى أَنا مُشتاقٌ وَعِندِيَ لَوعَةٌ .. وَلَكِنَّ مِثلي لايُذاعُ لَهُ سِرُّ

إِذا اللَيلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى .. وَأَذلَلتُ دَمعاً مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ

تَكادُ تُضيءُ النارُ بَينَ جَوانِحي .. إِذا هِيَ أَذكَتها الصَبابَةُ وَالفِكرُ

محاولات فنّية مستمرة:

بعد أم كلثوم، لم تتوقف محاولات تأدية الأغنية بألحان وأصوات مختلفة، كأنّ سحر الكلمات ونجاح أغنية أم كلثوم أغرى الفنانين بعدها بمحاولة التقليد أو التجديد، فقد أدّت القصيدة حناجر معاصرة متعددة، كالمطرب السعودي محمد عبده، ومحمد علي سندي، والملحن السوداني عبد الكريم الكابلي، والمطرب اليمني أيوب طارش. من جانب آخر استلهم المخرج السّوري الراحل "حاتم علي" من القصيدة اسم مسلسله الدرامي "عصيّ الدّمع".

هل ترغب بمشاهدة القصة بإخراج بصري جذّاب والاستماع إلى الأبيات بتعليق صوتي مميز؟ ، استمع لحلقة "أبو فراس الحمداني.. أَراكَ عَصِيَّ الدَمع" ضمن بودكاست وحي القصيد من إنتاج تنوين بودكاست.