بدءاً من اللحظة الأولى التي وصل فيها إلى المدينة للمضي بدعوته كان أول نشاط عمراني قام به رسول الله ﷺ في مستقره هو بناء مسجد قباء، ومنذ أن رفعت قواعد قباء ووضعت لبنته الأولى للصلاة لم تقتصر فلسفة الإسلام على جعل المسجد مكاناً للعبادة وحسب، بل أسست فيما بعد لكونه جامعاً يجتمع فيه الناس، يجدون فيه سكينة الأرواح، ويتشاركون الأفراحَ والأتراح، ويتعلّمون أمور دينهم ويناقشون أمور دنياهم.
لكنّ المسجد في زماننا فقد كثيراً من أداوره ، أبرزها كونه "جامعاً" بمعناه الاصطلاحي الشامل لدى المجتمعات المسلمة التاريخية، فلماذا لم يعد المسجد جامعاً كما كان؟
الدّيار الأولى
لم يمض وقت طويل بعد قدومه حتى شرع رسول الله ﷺ بتخيّر أرض وموقع مناسب لبناء المسجد الثاني في تاريخ الإسلام، المسجد النبوي. كان الهدف منه فضلاً عن جمع الناس للصلاة وإقامة الشعائر أن يكون مركز التقاء وسياسة لأمور المجتمع الجديد.
شارك في بنائه مع النبي ﷺ معظم أصحابه، واستغرق بناؤه اثني عشر يوماً، جعلوا فيها سواريه من جذوع النخل ، وأسقفه من الجريد وسعف النخيل، ورغم مظهره المتواضع إلّا أن دوره ومكانته كانا يتسعان رويداً رويداً وبشكل متسارع مع الوقت.
دارٌ للغريبِ والمُحتاج
خصّص الرّسول في مسجده منزول "الصُّفّة" أو "الظّلّة" أو ماتُعرف الآن "بدكّة الأغوات" لعابري السّبيل والمُحتاجين.
وروى البيهقي عن عثمان بن اليمان أنه «لما كثر المهاجرون بالمدينة، ولم يكن لهم دار ولا مأوى، أنزلهم رسول الله ﷺ المسجد، وسماهم أصحاب الصُّفَّة، فكان يجالسهم، ويأنس بهم». أدّى هذا الفعل إلى ترسيخ دورٍ وبعدٍ آخر للمسجد في كونه مكاناً لإغاثة الملهوفين ومساعدة المحتاجين وعابري السبيل ممن ضاقت بهم سبل الحياة، وهو ما انعكس فيما بعد على سلوك المسلمين من الأمراء والحكّام وعموم الناس في تخصيص جناح من المسجد لهذه الفئة من الناس، الأمر الذي أخذ مسميات مختلف عبر مختلف العصور الإسلامية [التسميات].
منارة للعِلم
في زمن النبوة شكّل المسجد النبوي مقصد المتعلّمين الأول لكونه مكان تواجد الرسول ﷺ، فكانوا يقصدونه لتعلّم أحكام الإسلام وسؤال النبي عن تعاليمه، ومسائل الحلال والحرام، والعبادات والمعاملات، وهو ما أسس لدور المسجد الرئيسي كمركز للعلم والتعلّم، فقد رَحُبت المساجد في مختلف العصور الإسلامية بحلقات العلماء والطّلاب لنيل مختلِف العلوم الدينيّة كالفقه والحديث، ودراسة القرآن وحفظه، وحتى تعلّم اللغات.
كما لقّنت في أروقته مواضيع الحساب والجغرافيا والعلوم الدنيوية فيما بعد، وتعاظم دوره حتى تحولت المساجد إلى جامعات في بعض الحقب الإسلامية، كجامع القرويين في المغرب، وجامع الزيتونة في تونس وجامع قرطبة في الأندلس، التي تحولت إلى جامعات مستقلة لهان مبانيها الخاصة وصار كل منها مركزاً عملياً وفكرياً هاماً في وقته وعصره.
أدوار أخرى:
لعبَ الجامع كذلك أدواراً على مستويات سياسية عالية، فتارة عُدّ قاعدة تسير منه الجيوش الإسلامية، وتارةً أُخرى مقراً للقيادة والسّاسة يجتمع فيه الصّحابة مع الرّسول، وأيامّاً ثانية مركزاً يحتكمُ إليه النّاس.
كما اتخذ مكاناً للتّداوي أثناء المعارك؛ فقد كان الرّسول ﷺينصُبُ خيمةً في فراغ المسجد لتقومُ النّسوة على تطبيب الجرحى. وفي أيّام السِّلم، يجلسُ العارفين بالطبّ على بابه لاستقبال المرضى وعلاجِهم.
وفضلاً عن هذا وذاك، لعب الجامع دوراً اجتماعياً في اجتماع الناس بعد الصلوات والجُُمُعات، كما كان مكاناً للترويح عن النفس، "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا صلَّى الفجرَ جلَس في مُصلَّاه حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ وكانوا يجلِسونَ فيتحدَّثونَ ويأخُذونَ في أمرِ الجاهليَّةِ فيضحَكونَ ويتبسَّمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ".
ماذا تخبرنا اللغة عن الفرق بين المسجد والجامع؟
بالعودة إلى معاجم اللغة، فإن المسجد هو الموضع والمكان الذي يسجد فيه الساجد والعابد والمتعبد، وتشير سائر الاستعمالات اللغوية المشتقة من جذر الكلمة إلى معاني الانقياد والخضوع والعبادة، أما من ناحية الاصطلاح الفقهي فهو المكان الذي تقام في الصلوات الخمس فقط. في حين أن الجامع هو المسجد الكبير الذي تقام في الصلوات الخمس بالإضافة إلى الجُمُعة وصلاة العيدين وصلاة الاستسقاء فضلاً عن كونه مكاناً لإقامة الدروس والمواعظ والخطب.
وسواء كان المسجد مسجداً أم جامعاً من ناحية توصيفه اللغوي أو الاعتبار الفقهي، فإن دور المساجد في فلسفة الشريعة و تاريخ حضارة المجتمعات الإسلامية يتعدّى كونه مكاناً للصلاة والتعبد إلى كونه مركزاً اجتماعياً وثقافياً وفكرياً أساسياً في حياة المجتمعات المسلمة.
مساجدُنا الآن:
يرى كثيرون تراجع الدور المركزي للجامع في حياة المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة واقتصار المسجد على كونه مركزاً للعبادة والصلاة فقط بالإضافة إلى توفّر بعض أدواره الاجتماعيّة المجتزأة أو مفرغّة المضمون أحياناً.
ورغم أن قيام المسجد بدوره كمكان للعبادة والصلاة فقط هو جزء جوهري وهام في تصوّرات الفلسفة الإسلامية وعلمائها ومفكّريها، إلا أن الكثيرين يعبرون عن كونه دوراً ناقصاً قياساً لما تعلّموه وعرفوه عن دور المسجد كجامع في تاريخ المجتمعات المسلمة.